قبل أن نسترسل في كلامنا على الصلب و الترائب نعود إلى تعبير " يخرج من بين " الذي جاء في الآية الكريمة سابقا لهما
لقد انصرف انتباه بعد المُحْدَثين(1) إلى أن الله تعالى قد قال : " من بين الصلب و الترائب " و لم يقل " من الصلب و الترائب " (2)
و لكنني أرى أن معنى التعبير القرآني قد فاتهم أيضا . كما أننا، و لغرض التفسير، يجب أن نأخذ الآية كاملة من دون إسقاط لفظ " يخرج " منها .
و حتى لا نضيع بين مراجع اللغة أو في متاهات الحدس و التخمين نعود إلى طريقتنا في التفسير بالرجوع إلى شواهد القرآن الكريم، فنقرأ قوله تعالى في سورة النحل " ... نسقيكم مما في بطونه من بين فَرْثٍ و دمٍ لبنًا خالصًا ... " . و أول ما يلفت نظرنا هنا هو أن الناتج، و هو اللبن، مما قد تحدثت عليه الآية الكريمة مفرد، و أما أصله فعديد، إذ هو الفرث و الدم.
و كل منهما له مكونات عديدة، مما قد لا يحصى. و كذلك هو الماء الدافق، هو مفرد، و لكن أصله عديد، و هو الصلب و الترائب .
فقوله " يخرج من بين فرث و دم " يفيد بأن اللبن مزيج استخلص استخلاصا من كلٍّ من مكونات الفرث و من مكونات الدم، حتى صار شيئا جديدا
و كذلك هو الماء في قوله تعالى : " خلق من ماء دافق * يخرج من بين الصلب و الترائب " اسْتُلَّتْ مكوناته العديدة و استخلصت استخلاصا من مصادر عديدة، و هذه المصادر العديدة هي من نوعين اثنين، هما الصلب و الترائب. كما أنه ليس من المقصود في قوله : " يخرج من بين الصلب و الترائب " أن يخرج من منطقة تقع في مكان وسط بين الأضلاع و الظهر .
فلو كان ذلك صحيحا، فإنه يصير صحيحا أيضا، في تفسير آية " نسقيكم مما في بطونه من بين فرث و دم لبنا خالصا " ، قولنا بأن اللبن يخرج من منطقة تقع في مكان وسط بين الفرث و الدم، و هو قول ظاهر بطلانه
و في قوله تعالى : " أأنزل عليه الذكر من بيننا " ص 8 ، و قوله :" أألقي الذكر عليه من بيننا " القمر 25، ليس المقصود بقوله استنكار الكفار أن الرسول قد ظهر في وسطهم بل هو استنكارهم أن قد اختير من بينهم ، و هم كثر
و الأحاديث النبوية الشريفة المروية عن النبي صلى الله عليه و سلم تؤيد رأينا هذا
فلقد روي عنه صلى الله عليه و سلم قولته المشهورة في كفار مكة الذين آذوه و اضطهدوه :
" لعل الله أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله عز و جل، اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون "
و قوله : " بل أرجو أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرب به شيئا " متفق عليه
و جاء في الحديث أيضا :
" إن الله خلق للجنة أهلا، خلقها لهم، و هم في أصلاب آبائهم"
و من خطبة للإمام علي ، رضي الله عنه في وصف الأنبياء :
" فاستودعهم في أفضل مستودع، و أقرهم في خير مستقر ، تناسختهم (تناقلتهم) كرائم الأصلاب إلى مطهرات الأرحام "
إن هذه الأقوال تؤكد بأن الأصلاب هي أصل لخلق الإنسان، لا أنه مخلوق من مكان وسط بين الصلب و الترائب
و بعد هذا كله، ما هو هذا الشيء الذي يخرج من بين الصلب و الترائب ؟؟
هل هو الماء الدافق ؟
أم هو الإنسان نفسه ؟
يتبع .....
--------------------------------------------------------
(1)و (2) ذكر ذلك، مثلا،الدكتور عدنان الشريف في كتابه ( من علم الطب القرآني، الثوابت العلمية في القرآن الكريم ) بإشارته إلى ( الإعجاز الدقيق في قوله تعالى ( من بين الصلب و الترائب ) و ليس ( من الصلب و الترائب ) كما ظن بعضهم
و قال الدكتور محمد علي البار في كتابه : ( خلق الإنسان بين الطب و القرآن ) : ( و قد أخطأ كثير من المفسرين القدامى حيث لم يهتموا بهذه اللفظة بين ... و قالوا أن المني يخرج من صلب الرجل .. و ماء المرأة يتكون في ترائبها .. و هذا خطأ علمي و خطأ منهجي حيث لم يعطوا الآية حقها فحذفوا كلمة بين و لذا وقعوا في الخطأ )
و واضح من كلام الباحثين الفاضلين أنهما يريان أن أصل خلق الإنسان يجيء من منطقة متوسطة بين الصلب و الترائب، وهو ترده الآية الكريمة التي تدل على أن الأصلاب هي نفسها مصدر للخلق " ( و حلائل أبنائكم الذين من أصلابكم " النساء 23